May 14 2017

“وبالوالدين إحساناً”

قبل بضعة أيام شارك أخ عزيز فيديو مؤثر جداً  على صفحة الفيسبوك  الخاصة به، وهو عن إمرأة أجنبية تخلت عن حياتها لتتفرغ لرعاية أمها المسنة، ومهما كتبت، لن أستطيع أن أفي هذه المرأة حقها ولن أستطيع أن أصف ما شعرت به وأنا أشاهد الفيديو لأنه أرجعني إلى ليلة حزينة، ولكن قبل أن أقص عليكم حكاية هذه الليلة، أود أن تشاهدوا الفيديو أولاً:

"I have given up my life to care for my mum" – A daughter's moving story about looking after her mother.(via Victoria Derbyshire)

Posted by BBC Family & Education News on Saturday, April 29, 2017

كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وكان المستشفى هادئاً جداً، لا تسمع فيه إلا وقع خطوات الممرضات والأطباء المناوبين. كانت أمي نائمة بعد أن أخذت كماً هائلاً من الأدوية، كنت أقرأ كتاباً وأشرب القهوة لتساعدني على السهر، وفي كل هذا الهدوء لم أسمع سوى أنين المريضة التي تشارك أمي الغرفة. أنين متواصل، دون توقف، ثم شخير، يليه أنين، ثم شخير. ساد بعدها الهدوء وبدأت أشعر بالنعاس، وإذ بالمرأة فجأةً تصرخ: “أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله”…  كانت اللكنة أبعد ما تكون عن العربية، وكان صوت المرأة المرتعش الخائف المستنجد هو ما دفعني لرفع الستار بيني وبينها في تلك الليلة. كل مافكرت فيه عندها أنها تنازع، تموت، وأن من القسوة والظلم أن لا تجد إنساناً واحداً يشاركها آخر لحظات حياتها. فما كان مني إلا أن ضغطت على زر الطوارئ ووقفت إلى جانبها وأمسكت يديها المتعرقتين، كانت تهذي من إرتفاع درجة الحرارة، ولا أعرف ماذا حصل ولكنها توقفت عن الأنين والارتجاف للحظة وبدأت تتأمل وجهي ثم رتبت على شعري، وابتسمت، فعلمت أنها ظنت أني شخص تعرفه، وتأكد شكي عندما بدأت تكلمني بلغتها التي لا أفهم منها شيئاً.
وهي تكلمني كنت أنا أتأمل تجاعيد وجهها، عينيها الزرقاوين الواسعتين، خصلات هربت من تحت منديل يغطي شعرها الأبيض المجعد الطويل… كم أنت جميلة أيتها العجوز!
جاءت الممرضات وسيطروا على وضعها. سألت إحداهم عنها فقالوا لي أن ليس لها أحد و أنها ككثير غيرها جاءت برفقة أحد أفراد عائلتها لإدخالها للمستشفى و بعدها لم يسأل عنها أحد. يتصل بهم المستشفى ولا يجاوبوا و كأنهم إختفوا عن وجه الأرض. شرحت لي أن العديد يلجأ لهذه الطريقة للتخلص من ذويهم بأقل خسائر مادية، بدل تكلفة دار المسنين.
أحسست بقلبي ينفطر، هذه العجوز المسكينة تنام وتقوم في نفس الركن لمدة أشهر، وهي في آخر أيامها، ستموت دون أن تتذوق أكلة تشتهيها، ستموت دون أن تسمع لغتها، دون أن ترى عائلتها، ستموت وحيدة. ما أقسى هذه الحياة.

المستشفى لا يسمح بمشاركة معلومات المرضى، فأخذت بطاقة كانت موجودة على طبق غذائها، وعرفت اسمها، وأنها تبلغ من العمر 93 عاماً وعرفت لغتها. فبحثت عن ممرضة تحكي لغتها وترجمتلي ما قالت السيدة خديجة، وأنها باتت عبء على عائلتها الذين استغلوا مرضها يوماً ليدخلوها إلى المستشفى ويتركوها فيه إلى أن تموت. سألت إذا كان بإمكاني الاتصال بهم أو بعنوانهم فأخبرتني أنهم غيروا مكان سكنهم وكل أرقام هواتفهم. سألت إذا كانت تشتهي شيئاً فحضنتني وطبعت قبلةً على وجهي  وطلبت شاياً بالحليب والتوابل. فجلبت لها ما طلبت. وحاولت الاعتناء بها قدر المستطاع ولكن كان قلبي لا يحتمل دموعها وأنينها ووحدتها. كم تمنيت أن أعثر على عائلتها وأبرحهم ضرباً، فرداً فرداً، كم تمنيت لو أني أعرف لغتها، لو كنت ممرضة…

دوماً أفكر بمن يستغلوا آباءهم في الغربة ليقبضوا ضرائب من الحكومة تعينهم على الاعتناء بذويهم، ولكنهم يصرفوها على منفعة أنفسهم ويهملوا أهاليهم شر إهمال. كم من عربي ومسلم يرمي أهله بهذه الطريقة، ولو كانت هناك عوائق مادية أو كان المسن بحاجة لرعاية على مدار الساعة، فهل يعني هذا أن لا يتسع الوقت لزيارتهم حتى؟ كيف يسمح لنا ضميرنا برمي من اعتنوا بنا حتى كبرنا ووقفنا على قدمينا؟ كيف نستطيع أن نتنازع من منا الأنسب لرعاية أهلنا لنتهرب من المسؤولية؟ كيف نستطيع خلق آلاف المبررات لرميهم براحة ضمير عجيبة؟

الأبناء إما ملائكة رحمة أو وحوش كاسرة . أتمنى أن نرجع لعاداتنا الجميلة وأن نخاف الله في تعاملنا مع المسنين، فيوماً ما سنكون نحن مكانهم  وكما تدين تدان!



Copyright 2018. All rights reserved.

Posted May 14, 2017 by Eman Abukhadra in category "Arab Societies", "Canada", "Posts in Arabic

2 COMMENTS :

Comments are closed.