November 26 2011

ألزهايمر

  الذكريات؛ تلك اللحظات التي نختزنها في عقولنا فتعود بين الفينة والأخرى لتذكّرنا بطعمها الحلو الذي تلذّذناه يوما ما، أو هي ربما تلك اللحظات التي تفرض نفسها على ذاكرتنا لتذيقنا مرها من جديد. الذكريات، إمّا نحبّها أو نكرهها، إماّ تلحق بنا أو نلحق نحن بها، تهرب منّا أو نهرب نحن منها، كلّها جزء من حياة البشر؛ وهي بحلوها ومرّها، ليست فقط قطعة من ماضينا، بل هي محرّك حاضرنا ودافع مستقبلنا، دون الذكريات لن نكون ما نحن عليه اليوم، ولا غدا، ولا بعد 20 سنة.

اعتبر جبران خليل جبران أنّ “النسيان شكل من أشكال الحرية“، فهل هو فعلا كذلك؟ هل يمكن أن نعد النسيان حرية حتى لو لم يكن خيارنا؟  وهل النسيان هو فعلا “أسهل طريقة للحياة” كما قال عبدالرحمن منيف؟

 قضى -ولايزال يقضي- كثير من الناس سنوات عديدة وأعمارمديدة باحثين فيها عن دواء سحري يعالج جراحهم ويمحي أتعس ذكرياتهم  وسمّوه النسيان، مفترضين أن النسيان هو الحل المُطلَق لكل مشاكلهم، فكيف لإنسان لا يتذكر أن يتألّم من الذكرى؟ ولكن فات هؤلاء أنّ التسيان حين يهجم لا يفرق بين الحلو والمر من الذكريات، وحين يسكن عقلا قد يحلو له أن يحتلّه بالكامل طاردا كل شيء في أسرع وقت ممكن… لم يتوقعوا أن النسيان متعب ومؤذي مثل التذكر أو حتى أكثر. وحين بدأت معاناة النسيان تنتشر بدأ هؤلاء الناس صراعهم للحصول على عكس ما كانوا ينشدون: دواء سحري يرجع لهم ذكريات حياتهم، كلّها أو حتى شيء منها، غير آبهين بما تحمله معها من سعادة أو كآبة .. أي ذكرى تعيد لهم إحساسهم بإنسانيتهم وكيانهم ووجودهم.

كثرت الكتابات والمقولات  عن فوائد النسيان، حتى أنّ الكثيرين تغنّوا به ولحّنوا له بديع موسيقاهم، ولكن قليلا ما نرى -وخاصة في عالمنا العربي- توعية أو تطرُّقا للنسيان بوجهه الشرس أو لمعاناة مرضى “النسيان القسري”، الذين لم يختاروا أن ينسوا ذكرياتهم ، على الأقل الحلوة منها، بإرادتهم، إنّما سُلِبَت منهم تلك اللحظات غالية الثمن عُنوة وبلا أي رحمة.  وهنا يكمن تميّز أقصوصة “ألزهايمر” للكاتب الراحل غازي عبد الرحمن القصيبي. فلم يكتب القصيبي عن المرض من ناحية علمية أو طبية مملّة، بل ناقش المرض وشرحه بطريقة مرحة، مستندا على مبدأ”شر البلية ما يضحك”، فيسرد تفاصيل ما يمر به مرضى الألزهايمر بخفّة دم رائعة، شارحا مرارة تجربتهم، والتضحيات التي يقدّموها هم ومن يعرفونهم، متطرّقا للمواقف المحرجة والمؤلمة والمخزية التي يفرضها المرض على ضحيته وكل من يحيط به.

 من أكثر ما أعجني في الأقصوصة، إبداع القصيبي في الإشارة إلى مواضيع مهمة جدا وحسّاسة من خلال سرد القصة الرئيسية، قصة مريض الألزهايمر،  ونجاحه في مناقشتها بشكل واضح وصريح وسريع  دون إطالة غير لازمة ودون انتقاص من متعة قراءة القصة. فقد قدّم القصيبي انتقادات اجتماعية واضحة مثل المراهقة، كيف كانت بسيطة قديما وكيف نجح الغرب في تحويلها إلى أزمة نفسية يصعب التعامل معها؛ وموضوع الاختلاط في عصور الإسلام الأولى وفي عصرنا الحاضر، وكيف أن الأمة العربية تعيش على الأطلال أسيرة لماضيها، هذا عدا عن تطرّقه للسياسة وانتقادها هي الأخرى بأسلوب ساخر قوي جدا، مثل السياسة الأمريكية-الصهيونية وتأثيرها على العرب… كل ذلك بأسلوب سلس بسيط وذكي للغاية.

وهكذا بدأت رحلتي مع كتابات القصيبي بآخر أعماله، وبعد رحيله، نعم، فقد نُشِرُت “ألزهايمر” بعد رحيل القصيبي، أي أنّها كانت آخر أعماله، والغريب في الأمر أنّ مكتبتي فيها تقريبا كل أعمال القصيبي التي سبقت “ألزهايمر” ولكنّني لم أقرأ أي منها بعد، واخترت “ألزهايمر” لتكون أوّل تجربة لي  مع أعمال القصيبي، والسبب هو الموضوع الذي لطالما أثار اهتمامي من جهة، ومعرفتي أنّ الأقصوصة وُلِدَت عند وفاته من جهة أُخرى. ويجب أن أعترف أنّ القصيبي -رحمه الله- نجح بكل بساطة بضمّي إلى قائمة معجبيه، فقد أبهرني أسلوبه السلس الرائع وذكاؤه في طرح أعقد الموضوعات بكل بساطة… وها أنا أنصح الجميع بقراءة هذه الأقصوصة المتميزة.



Copyright 2018. All rights reserved.

Posted November 26, 2011 by Eman Abukhadra in category "Arab Societies", "Books", "Posts in Arabic